من المؤاخذات الكبرى التي ينتقد بها معظم الفقهاء المتصوفة عقيدة الحلول .
والتي يومن بها وعلى ظاهريتها وماديتها العديد من المفكرين .
والتي تعني حلول اللاهوت في الناسوت أو حلول الخالق في المخلوق .
وبالفعل لهم كل الحق في تكفير كل من يومن بهذا ذاتيا وماديا .
فذات الله العلية متعالية على كل الخلق .
لكن العديد من الأولياء قدس الله أسرارهم إدعوا ولا زالوا يدعون هذا .
بل والسماع الصوفي كالكثير من الدواوين الصوفية مليء بأشعار غثة عن هذا الحلول وهذا الفناء في الله والإتحاد به .
كأشعار الحلاج مثلا الذي يعد النموذج الأكبر لهذا الحال :
فلقد فنى عن ذاته لحد الجذب ولحد نداءاته في الأسواق :
أغيثوني من ربكم .
بل ولحد قوله :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا .
وقوله :
سبحانك سبحاني .
لكن هذا كله كان عن شعور روحي وعن معنويات قلبية فقط
لفنانه عن ذاته محبة لله سبحانه وتعالى قدس الله سره .
لأن الفناء الصوفي لا يعني فناء وحلول ذات الولي في ذات الله سبحانه وتعالى.
بل فناء الولي فناء محبة وعبادة لا غير ..
وحلول شعوري فقط .
ومنة يتفضل بها الله سبحانه وتعالى على من يشاء حال بشراه بالولاية .
وحين يصير الولي محبوبا من الله تعالى بعد أن كان محبا فقط كما بالحديث :
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه .
فيصير كله بالله ولله ومن الله :
كنت بصره ... وسمعه ... ويده .. ورجله .
فيفنى الولي عن أنانيته الناقصة ليعيش ربانيته الكاملة :
فيفنى عن نقص بشريته ليعيش كمال إنسانيته :
فالإنسان الكامل هو الولي العارف.
وليببقى وكأنه : هو لا هو .
لكن برسم : اللاه .
لا رسم إسم الجلالة : الله الذي لا يليق إلا بالخالق الحق سبحانه .
الرسمان اللذان ألحد العديد ممن لم يفرق بينهما من علماء الحروف والفلاسفة.
كإبن عربي قدس الله سره الذي رسم إسم الجلالة بستة حروف عوض خمسة فزاد الواو في الأخير ليرسم إسم الله على شكل : اللاهو . ويقول بتساوي الله مع اللاه .
وليستنتج بأن الله حرفيا تعني اللاهو بل وهو اللاهو .
وليقول بتجلي إسم الجلالة في الوجود عن فيض .
فأثبت الحقائق الصوفية حرفيا وفلسفيا ووجوديا وعلى مادياتها غفر الله لنا وله .
حتى أمر أحد المربين المومنين بهاته الطريقة الأكبرية مريده بقوله : كنه .
وكل هذا والله أعلم لعظيم ولاية إبن عربي قدس الله سره
ولفناء روحه في حب الله تعالى فناء كبيرا
ثم لعدم خروجه من هذا الحال الروحي العظيم حتى الممات ،
وغرقه الكبير في كل الديانات والفلسفات والمعارف..
لكننا وإن كنا نشهد بمقامات وأحوال ولايته الكبرى ..
فإنا لا نقر بكل فلسفته الوجودية رغم تأكيده على تعالي ذات الله سبحانه وتعالى ...
فالفلسفة والأشعار الصوفية - وحتى الإسلامية منها - ليست كلها على صواب وإن كانت كل أحوالها ومقاماتها على هدى وإستقامة.
لعجز التعبير اللغوي عن جل الحمولات الروحية والذوقية
إذ يبقى الولي الكامل حال الفناء هذا عبدا خالصا.
لكن ناسيا لكل جثمانيته ظاهرا .
فيبقى روحا محبة قد نست كل الأكوان وكل الجسد .
لإنغماسه في معارف ولدنيات ويقينيات لا ولن يصدقها غير أهلها .
وليمن الله بعد هذا على كمل الأولياء بمقام البقاء .
ويعود للولي توازنه فانيا عن كل هذا الفناء .
ونافيا لكل أحوال تأليهه وتألهه السابقة .
المقام الذي لا نلمسه عند إبن عربي قدس الله سره لموته فانيا في حب الله تعالى.
والله أعلم .
والمقام الذي عبر عنه الحلاج قدس الله سره بوضوح في آخر أشعاره كقوله :
عجبت منك ومني يا منية المتمني
أدنيتني منك حتى ظننت أنك أني
فأكد بأن كل هاته الأحوال مجرد قرب روحي لا حلولا ماديا .
وكما أكد عند سؤاله رحمه الله :
أأنت أنا ؟ هذا في إلهين .
حاشاك حاشاك من إثبات إثنين .
ليؤكد توحيده الخالص لله تعالى ..
بل وليلتمس الأعذار لمن حكموا بإعدامه في مناجاته الأخيرة قبل قتله :
هؤلاء عبادك قد إجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك
وتقربا إليك فإغفر لهم :
فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي ما فعلوا ..
ولهذا لا يزال معظم المتصوفة يلقبونه بشهيد الحب الإلهي .
ولهذا ننفي فقهيا أي حلول ذاتي أو مادي أو فلسفي لذات الخالق في المخلوق.
رغم إثباتنا للفناء وللحلول وليس الإتحاد كمشاعر معنوية وكأحوال ناقصة
أكمل منها - وكلها - مقام البقاء بالله .
ولهذا فإن الصوفي الحق هو من صدقت إرادته لوجه الله تعالى..
ومن فنى عنه ليبقى شعوريا بالله .
ومن كان كله لله كان الله له : بداية ونهاية كل التصوف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق