وإن أكبر خطإ لا يزال يقع فيه الكثير من فقهاء التيار السلفي وليس كلهم كما أكدنا :
إدعاءهم بأن منهجهم لوحده هو المنهاج النبوي..
نافين لتعدد المناهج ، ولإجتهادات كل من سواهم .
ولو كانت أدلتهم كلها نقلية كما هو أسلوبهم ..
ورافضين للكل لأدنى شك في الجزء كما هم متشددوهم ..
بينما أثمر لنا المعتدلين منهم - وككبار الأولياء قدس الله أسرارهم - فقها متينا يجمع بين النقل والعقل ...
ويقبل الإختلاف والتنوع كماهي السلفية العلمية الحقة .
وليبقى النقل بالعقل هو الأداة المثلى لفضلاء العلماء جميعا ، ولأولي الألباب من الأمة..
والذين بهم لا نزال نغترف جديد العلوم والفقهيات والمعارف والعرفانيات ..
وكل الإجتهادات المستجدة ...
فرغم أن فقه العبادات والمعاملات موقوف على الصحابة رضوان الله عليهم وجل فقه العمل ، ستبقى الثقافة الإسلامية أوسع من كل ثرات السلف والخلف ..
وذاك لأن العقل الإسلامي الحق عقل قرآني كلي وكوني طبيعي وغيبي وسني عملي ، ولا تسعه إلا الرؤيا الوجودية للرسول صلوات الله عليه ..
والتي لا تزال كل التيارات غارقة فيها بين مهتدية وضالة ، وبين مجددة ومقلدة ..
ولهذا كذب من إدعى بأن فكر الصحابة كان واحدا .
بل كان وحدويا على العمل ، ومحتضنا للاختلاف دون تضاد .
المهمة التي لم يطقها التابعون وكل من أتى بعدهم .
فظهرت الفرق منذها ..
وبرز الخلاف المذموم بعد أن كان إختلافا محمودا..
وليحتد من وقتها الصراع على الدنيا بإسم الدين كما حال الكثير من تياراتنا اليوم وللأسف ....
ولينزوى ومنذ القرن الثاني للهجرة - بسبب هذا - بعض الزهاد المسلمين للعبادة .
فبرز معهم التصوف إجتماعيا وجماعيا بعد أن كان التقشف والسلوك القلبي ظاهران في كل السنة النبوية وحياة الصحابة رضوان الله عليهم ...
بل وبعد القرآن الكريم كان أول من أصل للزهد في الدنيا سيرة الرسول صلوات الله وبعض الصحابة ..
كما أصل بعد القرآن الكريم لفقه الولاية كأعلى مقام يقيني الحديث القدسي للرسول صلوات الله عليه :
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب لي عبد بأحب إلي مما إفترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب لي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولءن دعاني أجبته ولءن إستعاذني لأعيذنه
فظهر من بين هؤلاء الزهاد خاصة الخاصة من المتصوفة الأوائل :
ومن السامعين المبصرين بالله.
والذين لا حركة ولا سكون لهم إلا به سبحانه ..
والذين يحيون ببصائر القلوب والأرواح..
لا بالأجسام والعيون فقط .
ولهذا كان إيمانهم يقينا.. وعلمهم عرفانا .. وفقههم أشواقا وأذواقا وأسرار وتزكية...
ومنذ البدء فقهوا بأن عرفانهم هذا لخاصة الخاصة كما قال الرسول صلوات الله عليه في خطبة الوداع : رب مبلغ أوعى من سامع .
وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض الصحابة : هاهنا علم غزير لو وجدت له حاملا .
فظهرت الخانقانات والزوايا لهاته التربية القلبية والروحية الخاصة .
كما ظلت المساجد - وبعدها المدارس - للمجالس العلمية العامة..
فالتصوف إذن :
من العلوم المكنونة في الكتاب والسنة وحياة الصحابة ..
ومن التجاريب واللدنيات الموروثة عن السلوك القلبي والروحي للأولياء قدس الله أسرارهم..
والذين رتبوا أحوالها ومقاماتها وربوا عليها مريديهم :
لعلهم يفقهون ما فقهوا من الأعمال والأذواق والأنوار والأسرار..
ولعلهم يبشرون بما بشروا به من ولايتهم لله ..
ومن ولاية الله لهم:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
الذين آمنوا وكانوا يتقون .
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة :
وبالتالي فإن الولي قرآنيا :
لا يخاف ولا يحزن
ومومن تقي
بل ومبشر دنيا وآخرة
ولا يبصر ولا يسمع ولا يتحرك إلا بالله عند كمال إنسانيته .
وربما إصطفاه الله سبحانه للدنياته العلى كما بقوله تعالى عن الولي الخضر عليه السلام : آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
فيبشره الله بعلم اليقين عن عين يقين وعن حق يقين في الدنيا قبل الآخرة. وكلها مصطلحات قرآنية .
ولهذا يبقى التصوف من أسمى علوم الإسلام والقرآن والسنة:
لأنه فقه إحسانهما
وعلم اليقين فيهما
بل ومن علوم الآخرة التي لا تسعها في كمالاتها إلا حياة البرزخ .
بل ومن اللدنيات المتعلقه بذات الله العلية ، وبالنظرة الوجودية والشاملة للرسول صلوات الله عليه .
فهو ذوق تجليات أنوار الله تعالى وصفاته في أفعاله وفي كل الوجود روحيا .
ولهذا يرى الولي من الدين ما لا يراه فقهاء الظاهر .
وللحد الذي يظن فيه وكأنه قبس من نور الله كما سنشير في فقراتنا عن الحلول الشعوري ووحدة الشهود.
وخصوصا إن رأى عينه الثابتة في علم الله تعالى كولي .
أو رأى الإحسان الذي يراه الله به . لا الصورة الإحسانية التي يرى فيها نفسه .
فعن هاته المقامات السامية وهاته الأحوال العالية عبر كبار الأولياء..
وبها لا زالوا يزكون مريديهم ويربون ويرشدون :
ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
ولهذا لا بد لك من ولي مرشد قد إكتمل حقا بالله سلوكه ليهديك هذا السبيل الروحي العلي والعميق ..
وما سلوكك وما ولايتك إلا بالله .
فلا كسب لك ولا لأي كان فيها .
ومهما سلكت .
بل ومن عجائب سلوكها أن :
من بدايتها توحيدك وتوبتك كمريد سالك
ثم تجديدك لتوحيدك وتجديدك لتوبتك أيضا كولي واصل.
فأثمن ما يكتشفه الولي الحق عند إكتمال لا كمال دورته الصوفية:
أن توحيده كان مغشوشا لأن تأليهه كان لنفسه لا لله عند حلوله الشعوري وأحوال وحدة الشهود وبشراه بالولاية.
كما أن توبته كانت ناقصة لظنه عند إلتزامه :
بأنه هو الذي تاب لا الله هو التواب الذي تاب عليه .
وهنا يهدم الولي الحق عند بداية النهاية كل سلوكه وكل بشرياته..
وينسى كل كراماته وكل أعماله ..
ويفنى عن فنائه لعله يبقى حقا بالله .
فيبقى دون فخر بحسنة ..
ودون أي إحساس باطني بالتميز ، ومهما عظمه الناس وبجلوه :
لعل الله حقا يتوب عليه .
وحقا يعفو عنه ويغفر ..
ولعل الله حقا يتولاه : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
فحسنة المقربين سيئة الأبرار
ولهذا فإن الولي ومهما بشر لا يأمن آخرته ..
وبالتالي فإن كل بداية سلوكك هذا :
في توبتك النصوح الخالصة.
وفي مجاهدتك لنفسك بكثرة ذكرك.
لعل قلبك وروحك ينطلقان محبة وشوقا في هذا السبيل .
فما بينك وبين الله إلا صحراء نفسك.
و لهذا فكل النهاية في توبتك منك .
وفي إستقامتك الباطنة قبل الظاهرة :
فالإستقامة خير من ألف كرامة .
ومن حقق في ذاته وجاهدها عرفها وتحقق ، وتجلى له الحق ..
ومن عرف نفسه عرف ربه ...
ومن ذاق عرف :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق